الأخبارالمكتبةمنشورات

كنتُ حجرَ عثرةٍ لا يُستَهانُ به على دربِ حساباتِ الهي\منةِ المُعَمِّرةِ قرنَين من الزمنِ بشأنِ الشرقِ الأوسط وكردستان خاصة…

الخروج من سوريا

عب\د الله أوج\لان

إنّ الخروجَ من سوريا مرتبطٌ بالتمشيطِ الذي أجرَته شبكةُ غلاديو التابعةُ للناتو. لذا، محالٌ أنْ نَصوغَ شرحاً صحيحاً لهذا التمشيط، ما لَم نأخذْ الغلاديو والانشقاقَ الحاصلَ في الجيشِ التركيِّ على محملِ الدقة. فرئاسةُ كلٍّ من إسماعيل حقي قره دايي وحسين كفرك أوغلو لهيئةِ الأركانِ العامة، لَم تَكُنْ تتحكمُ بزمامِ كلِّ شيءٍ بالدرجةِ المُعتَقَدة. فكِلاهما كان أقربَ في فكرِهما إلى موقفِ أشرف البدليسيِّ من القضيةِ الكردية. ولَم يَكُونا يَجِدان من الصائبِ أو الممكنِ توجيهَ الحربِ إلى اجتثاثِ الكردِ من الجذور. أما وجهةُ نظرِهما إلى الحلِّ السلميِّ والسياسيِّ الذي تطلعَ كلٌّ من تورغوت أوزال وأشرف البدليسيُّ إلى البدءِ به، فكانا يَعتَبِرانه من دواعي الروحِ الوطنيةِ من جهة، وأكثر تناغماً مع مفهومِ الحربِ التقليديةِ من الجهةِ الأخرى. هذا وكان ساقب صبانجي أيضاً ممثلاً عن الفريقِ الذي يدافعُ عن هذا النهجِ داخل “جمعية الصُّنّاع ورجال الأعمال الأتراك TÜSİAD” . كما وكان موقفُ كلٍّ من محمد أيمور Mehmet Eymür، رئيس دائرة الكونتر كريلا في “منظمةِ الاستخباراتِ الوطنية”، وحنفي آفجي Hanefi Avcı من دائرةِ الأمنِ أيضاً يتماشى مع نفسِ النهج. وقد كان شرعَت هذه المجموعةُ بانتهازِ حادثةِ سوسورلك، لشنِّ حملةٍ ضد فريقِ الحربِ النافذ. في حين كان الفريقُ المضادّ – أو جناحُ الغلاديو – يمثلُه أساساً دوغان غوريش وجفيك بير Çevik Birوكان هذا الفريقُ هو الذي أشرفَ على محاولةِ اغتيالِ كلٍّ من ساقب صبانجي وحسين كفرك أوغلو. علاوةً على أنّ عدداً جماً من محاولاتِ الاغتيالِ التي سبقَتها، والهادفةِ إلى القضاءِ على بعضِ الشخصياتِ داخل جهازِ الدولة، وعلى رأسِها تورغوت أوزال وأشرف البدليسيّ؛ كان قد قامَ بها أسلافُ نفسِ الفريقِ وامتداداتُه السابقة. كان دورُ استلامِ منصبِ رئاسةِ الأركانِ العامةِ في عامِ 1990 قد أتى على محي الدين فيسون أوغلو Muhittin Fisunoğlu، حسب عاداتِ الجيش. وعندما نُصِّبَ دوغان غوريش رئيساً لهيئةِ الأركانِ العامةِ بشكلٍ خارجٍ على القاعدة، ازداد الشرخُ الذي بينهما اتساعاً. هذا وقد شرعَ الفريقُ الآخر في محاولةِ اغتيالِ دوغان غوريش، بإسقائِه شاياً مُسَمَّماً عن طريقِ جنديَّين مناصرَين لـPKK  داخل صفوفِ الجيش. إلا إنّ تلك المحاولةَ لَم تنجحْ تماماً. وعندما سألني المُدَّعي العامُّ العسكريُّ الخاصُّ في جزيرةِ إمرالي عمّن بَتَّ في هذا الأمر، كنتُ قلتُ له أنّ الجنديَّنن كانا مناصِرَين لـPKK، وأنهما فَرّا من الجيشِ بُعَيد تلك الحادثة، وانخرطا في صفوفِ الأنصار، ثم نالا مرتبةَ الشهادة. وبيَّنتُ اعتقادي بأنّ القرارَ الأصلَ كان قد صدرَ من داخلِ الجيش. وهكذا كان قد أُغلِقَ ملفُّ التحقيقِ في هذا الشأن.

يمتدُّ هذا النوعُ من التناقضِ داخل الجيشِ إلى مطلعِ القرنِ العشرين، بل وحتى ما قبلِه. إذ نستشفُّ تنافُرَ وتصادُمَ المنهجِ عينِه في جميعِ الأحداثِ المثيلةِ الممتدةِ على طولِ قرنٍ بأكملِه تقريباً، بدءاً من الإطاحةِ بالسلطان عبد الحميد (بل والسلطان عبد العزيز أيضاً)، وحتى محاولةِ اغتيالِ مصطفى كمال، مروراً بممارساتِ التطهيرِ العرقيِّ المُطَبَّقةِ على الكرد، والتي ابتدأَت بالمؤامرةِ المُحاكةِ ضد الشيخ سعيد في 15 شباط 1925، وبلغَت حدَّ إعدامِ سيد رضا غدراً وحيلةً في 18 تشرين الثاني من عامِ 1937؛ وبدءاً من إغلاقِ وحظرِ الحزبِ الجمهوريِّ الليبراليّ (1930)، إلى تنحيةِ إينونو من منصبِ رئاسةِ الوزراء (1937)؛ ومن الانقلابِ العسكريِّ الحاصلِ في 27 أيار 1960، وحتى انقلابِ ما وراء الحداثةِ في 28 شباط 1997، وصولاً إلى الاستعداداتِ الانقلابيةِ العديدةِ مؤخراً بعد عامِ 2000. كانت ألمانيا ثم إنكلترا فأمريكا قد ساندت هذا الصراعَ على التوالي كقوى مهيمنة، في سعيٍ للتحكمِ بمسارِه من الخارج. ومنه، فكلُّ أحداثِ المؤامراتِ والدسائسِ والاغتيالِ الجارية، لَم تَكُنْ في مضمونِها سوى انعكاساً لحروبِ الهيمنةِ المُسَلَّطةِ على شعوبِ الشرقِ الأوسط، وبالأخصِّ على شعوبِ الأناضولِ وميزوبوتاميا. ومن بينِها هناك سياقُ حربِ الغلاديو ذو المراحلِ الأربعِ مما طالَ المقاومةَ الكرديةَ التي يَرودُها ( يقودها)  PKK، والذي عرضتُه في الفصولِ السابقةِ على شكلِ مسودة. إذ إنّ حربَ الهيمنةِ للقوى الرأسماليةِ كانت تستمرُّ متقمصةً قناعَ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء. ولَطالما تواجدَ فريقٌ مستاءٌ من ذلك داخل الجيشِ منذ عهدِ مصطفى كمال. إنهم وطنيون وغَيارى على الأناضول. ومنذ انقلابِ 27 أيار 1960 وحتى مرحلةِ الاستعداداتِ الانقلابيةِ لِما بعد عامِ الألفين، كان وضعُ هذا الفريقِ من الوطنيين والذين بمستطاعِنا تسميتُهم بالأكثر مُناصَرةً للسلام، مختلفاً عن وضعِ الانقلابيين والمتآمرين الذين كانوا يحظَون بدعمِ شبكةِ غلاديو الناتو أساساً. زِدْ على ذلك أنّ الامتداداتِ المنيعةَ والبؤرَ الحصينةَ لكِلا الطرفَين كانت موجودةً بين صفوفِ المجتمعِ المدنيِّ أيضاً، والتي كانت تشهدُ علاقاتٍ وصِداماتٍ دائمةً فيما بينها. فكانت تتفوقُ إحداهما على الأخرى وفقاً للمرحلةِ السائدة. كما وكانت على الصعيدِ الطبقيِّ تمثلُ البورجوازيين القومويين والمتواطئين بالضرورة.

وقبلَ الخروجِ من سوريا، كان التنافسُ بين هذَين الفريقَين قد طفا على السطحِ ثانيةً. هكذا، فالتنافسُ بين الموالين والمعارضين بشأنِ الحوارِ معنا، كان قد انتهى لصالحِ جناحِ غلاديو الناتو، أي لصالحِ الفريقِ المُناصرِ للحربِ والإبادة، وبدعمٍ من إسرائيل وأمريكا. وعشيةَ الخروج، كانت الاستخباراتُ الإسرائيليةُ قد أصرَّت على الإيماءِ بنحوٍ غيرِ مباشرٍ بضرورةِ خروجي من سوريا. لَم أَكُنْ أرى ذلك مناسباً، تجنباً لتَكَبُّدِ وضعِنا في سوريا خسائر فادحة. كما ولَم أَكُنْ أصادقُ على ذلك استراتيجياً وأيديولوجياً. لكنّ الحربَ كانت ستسيرُ في مجراها الطبيعيّ، وكنا سنعيشُ ما خبّأَه لنا القدَر. لَم أَكُنْ قَدَرياً. إلا إنّ تغييرَ المسارِ والتخلي على حينِ غرّةٍ عن النهجِ الأيديولوجيِّ والسياسيِّ والعسكريِّ السائدِ قُرابةَ ثلاثةِ عقودٍ بحالِها، ما كان لِيَكُونَ عصياناً ذا معنى على القدرِ المحتوم. كان يتعينُ الالتزامُ بالصدق، وما كان لي أنْ أجهدَ أساساً لإنقاذِ نفسي. وبعد الإنذارِ الأخيرِ الذي أطلقَه أتيللا أتيش باسمِ غلاديو الناتو، لَم يَكُنْ بإمكانِنا تصعيدُ الحربِ إلى مستوى أعلى، إلا في حالِ مساندةِ سوريا وروسيا لنا بثَباتٍ لا يتزعزع. لكن، ومثلما لَم يُؤَمَّنْ هكذا دعمٌ أو مساندة، فإنّ كِلا البلدَين لَم تَكُنْ لديهما القدرةُ، بل ولا حتى النيةُ على تَحَمُّلِ وجودي شخصياً على أراضيهما. وقد كان هذا مستحيلاً فعلاً بالنسبةِ إلى سوريا. إذ كان من الواردِ أنْ تُحتَلَّ بين ليلةٍ وضحاها، من طرفِ الجيشَين التركيِّ شمالاً والإسرائيليِّ جنوباً. ولو أنهم لَم يهتاجوا أو يتوتروا، لَكان بوسعِهم خلقُ إمكانياتِ تَموقُعٍ أفضل بالنسبةِ لي. إلا إنهم لَم يستطيعوا المُجازفةَ في ذلك. أما موقفُ روسيا، فكان أكثر ذُلاً. حيث أرغمَتني على الخروجِ من موسكو، مقابل مشروعِ التيارِ الأزرقِ وقرضٍ من صندوقِ النقدِ الدوليِّ مقدارُه عشرةُ ملياراتٍ من الدولارات.

من عظيمِ الفائدةِ والأهميةِ الإمعانُ عن كثبٍ في سياقِ ما قبلَ الخروجِ وأثناءَه، قبل الخوضِ في مغامرةِ أثينا وروما.

لن نستطيعَ فهمَ المجرياتِ بصورةٍ كاملة، ما لَم نُدركْ ثنائيةَ انقلابِ 28 شباطٍ بشكلٍ صحيح. فجناحٌ من الانقلابيين كان قد اقتربَ منا مع مقترحاتِه الموضوعيةِ بشأنِ السلام. وأعتقدُ أنّ أرشيفَنا يحتوي على الوثائقِ المتعلقةِ بذلك. وعلى غرارِ ما حصلَ إزاء موقفِ تورغوت أوزال ونجم الدين أربكان، كنتُ مقتنعاً بجديتِهم وبرغبتِهم في السلام. إلا إنّ هذا الموقفَ المواليَ للحلِّ السلميِّ والسياسيّ، كان قد أفضى إلى حصولِ انقلابٍ داخل الانقلاب. والآن يتضحُ للعيانِ على أفضلِ وجهٍ أنّ كلاً من إسرائيل وأمريكا لَم تَكُونا في مصافِّ الحلِّ السلميِّ والسياسيِّ قطعياً آنذاك، أي إلى حينِ اعتقالي. بل كانتا تتطلعان بإصرارٍ شديدٍ إلى استمرارِ الحرب، ولو بمستوى منخفض، وإلى تخبُّطِ القضيةِ الكرديةِ في العقمِ واللاحل. إذ كانتا بأمسِّ الحاجةِ إلى ذلك في سبيلِ التحكمِ بزمامِ الأمورِ في الشرقِ الأوسط، وخاصةً لأجلِ إسقاطِ الحكمِ في العراق. حيث ما كان لهما أنْ تَحُدّا من فاعليةِ تركيا، ولا أنْ تُطَبِّقا مخططاتِهما، إلا عن طريقِ ذلك. وهكذا، كان قد أُطيحَ بتورغوت أوزال ونجم الدين أربكان وبولند أجاويد، لأنهم لم يأبهوا لهذه المخططات، بل سلكوا موقفاً أناضولياً وقومياً عموماً، وموالياً للسلامِ وللحلِّ السياسيٍّ على صعيدِ القضيةِ الكرديةِ خصوصاً. أما انتهاءُ أمرِ إزاحتِهم بالموتِ أو بعدمِه، فلَم يَكُنْ يتسمُ بأهميةٍ تُذكَرُ بالنسبةِ إلى مُوالي الحرب، لأنهم كانوا في قلبِ الحربِ من الأساس. لقد كانوا يطمعون في بلوغِ مآربِهم بالاستمرارِ بالحربِ حتى الأخير، وتذليلِ كلِّ عائقٍ ينتصبُ أمامهم، بما في ذلك القضاءُ التامُّ على الواقعِ الكرديِّ بالطرقِ العسكرية، أي بما هو أَشبَهُ بالتطهيرِ العرقيّ. وما كان للقوى المهيمنةِ أنْ تحرزَ النجاحَ المأمولَ أبداً، ما لَم تُساندْ هذا المفهوم، الذي يُعدُّ امتداداً لنهجِ الاتحادِ والترقي الكلاسيكيّ. ونظراً لأنها على درايةٍ بذلك، فقد كانت تشعرُ بالحاجةِ المطلقةِ إلى دعمِ ومؤازرةِ أمريكا وإنكلترا وإسرائيل لها. وكان هذا الدعمُ قد تحققَ أثناء خروجي من سوريا في 1998.

كان قد تمَّ الحظيُ بالدعمِ المطلقِ من قِبَلِ أمريكا وإنكلترا في مستهلِّ أعوامِ التسعينيات، ومن قِبَلِ إسرائيل أيضاً في سنةِ 1996 (اتفاقيات الشراكة الإستراتيجية في المجالِ العسكريِّ بين تركيا وإسرائيل). هكذا، كان الدورُ قد أتى على حلِّ الجانبِ الداخليِّ من الأمر، أي على القيامِ بالتغييراتِ الحكومية، وبالتسويةِ اللازمة داخل صفوفِ الجيش؛ والذي كانوا سيُطَبِّقونه خطوةً تلو الأخرى بدءاً من عامِ 1990. وتتبدى هذه الحقيقةُ علانيةً من خلالِ القولِ الذي صرَّحَ به دوغان غوريش الذي تسَلَّمَ منصبَ رئاسةِ هيئةِ الأركانِ العامة، فورَ عودتِه من أولِ زيارةٍ له إلى إنكلترا؛ حيث قال: “لقد أَشعَلوا لنا الضوءَ الأخضرَ من أجلِ القضاءِ على PKK””. وفي السياقِ الذي أَعقَبَ ذلك، لَم ينحصرْ الأمرُ في هجومِ الإبادةِ الذي استهدَفَ الكردَ وPKK، بل جميعُنا نَعلمُ جيداً مشاهدَ الأحداثِ المُرَوِّعةِ والاشتباكاتِ الفظيعةِ البالغةِ حدَّ قتلِ رئيسِ الجمهورية، وإحداثِ التغييراتِ الحكومية، وأحداثِ التصفيةِ داخل الجيش، وحركاتِ امتصاصِ ردودِ الفعلِ بين صفوفِ المجتمع، وسلسلةِ الاغتيالاتِ المستهدِفةِ للمثقفين ورجالاتِ الأعمال، والمجازرِ الجماهيرية، وفرضِ الاستسلامِ على الوسائلِ الإعلامية. ما ينقصُ هنا، هو إدراكُ كونِ كلِّ هذه الأحداثِ مترابطةً ببعضِها بعضاً. من هنا، لن نستطيعَ تحليلَ أيَّ حدثٍ أو صِدامٍ أو حادثِ اغتيالٍ هامٍّ بعينٍ سليمة، ما لَم نَرَ النهجَ العريضَ لغلاديو الناتو خلفَ كافةِ الأحداثِ السياسيةِ والاجتماعيةِ الهامةِ التي شهدَتها تركيا بدءاً من دخولِها إلى حلفِ الناتو، وحتى سنةِ 1998. أي أنّ صُلبَ الموضوعِ يتجسدُ في شنِّ حربٍ بطابعِ الناتو ضد مطالبِ الشعوبِ في الحريةِ والمساواةِ والديمقراطية، وأُضيفَ إلى الحلقةِ الأخيرةِ من مسلسلِ الحربِ هذا حادثةُ خروجي من سوريا سنةَ 1998.

كان ثمة طريقان أمامي أثناء الخروج: أولُهما كان طريقَ الجبل، والثاني كان طريقَ أوروبا. اختيارُ طريقِ الجبلِ كان يعني تصعيدَ الحرب، بينما ترجيحُ طريقِ أوروبا كان مفادُه البحثَ عن فرصةِ الحلِّ الدبلوماسيِّ والسياسيّ. معروفٌ أنّ الاستعداداتِ لشقِّ طريقِ الجبلِ كانت قد جرت قبل ذلك بأيام. وكانت كفةُ الاحتمالِ تَرجحُ في هذه الوِجهة. إلا إنّ مجيءَ هيئةٍ يونانيةٍ إلى عندنا في تلك الأوقاتِ بالضبط، والاتصالاتِ الهاتفيةَ الكثيفةَ التي أجرَتها ممثلتُنا في أثينا آيفر كايا حينذاك (مع أشخاصٍ يُعتَبَرون مسؤولين رفيعي المستوى)؛ قد آلَ إلى تغييرِ مسارِنا صوب أثينا. كانت مشكلةُ المسؤولين السوريين تتجسدُ في أنْ أخرجَ بأقصى سرعةٍ من هناك. إلا إنهم لَم يَبدوا مرتاحين كثيراً لانطلاقي نحو أوروبا. وعدمُ إيجادِهم البديلَ في هذا المضمار، إنما هو مَأخَذٌ جادٌّ مُسَجَّلٌ عليهم. في واقعِ الأمر، لَم يَكُنْ الانطلاقُ نحو أثينا في موضعِ الحُسبان. بل كانت فرصةً مسنوحةً لَم أتجنَّبْ الاستفادةَ منها، إيماناً مني بجديةِ أصدقائِنا هناك. ولو كنتُ أعرفُ أنهم كما قابَلتُهم على أرضِ الواقع، لَما انطلقتُ إلى هناك إطلاقاً. لكنّ السؤالَ الذي يجب طرحُه هنا هو: تُرى هل شعبةُ شبكةِ الغلاديو – التي من المعلومِ أنها شديدةُ المناعةِ في اليونانِ أيضاً – هي التي لعبَت دورَها في سيناريو الخروجِ ذاك؟ لا أستطيعُ صياغةَ جوابٍ حاسمٍ على ذلك. بل يتعينُ البحثُ في هذا الموضوع. وما يندرجُ في لائحةِ الاحتمالاتِ الواردةِ بشأنِ تسليمي إلى تركيا، هو إنجازُ أمريكا الاتفاقَ على صعيدِ المبدأِ مع الإدارةِ التركيةِ في حلِّ مشاكلِها مع اليونان، أو أنها اقتَطَعَت منها عهداً بذلك. وترجحُ كفةُ احتمالِ إعرابِ أمريكا عن نواياها في هذا السياق ضمن إطارِ حلِّ مشكلةِ إيجه وقبرص بشكلٍ خاص. وعليه، ينبغي الأخذُ في الحُسبانِ دون بُدّ، أنّ تركيا قد سلكَت موقفاً تنازلياً بلا حدود في هذا المضمار.

كان المسؤولون (أضفت هذه الكلمة تلافياً لسوء الفهم والخلط بينهم وبين الشعب) السوريون قد التقطوا أنفاسَهم بعدما غيَّروا مسارَ الطائرةِ ببراعةٍ لتَحُطَّ بي في أثينا في التاسعِ من شهرِ تشرين الأول. انتصبَ كالندريديس Kalenderidis أمامي عندما هبطتُ في مطارِ أثينا. كان كالندريديس قد مكثَ طويلاً في تركيا أيضاً بصفتِه ضابطاً مسؤولاً في الناتو. وكان ثابرَ على المهمةِ عينِها في السويد أيضاً. لذا، ربما هو تابعٌ لغلاديو اليونان. كان يتظاهرُ بالصداقةِ إلى أبعدِ مدى. كما وكان ثمة مراسلٌ غريبُ الأطوارِ وسيطٌ بيننا، سَرَّبَ إليَّ بعضَ وثائقِ الناتو. قد يَكُونُ فعلَ ذلك لزرعِ الثقة. وهو مَن أخذني في نفسِ المطارِ إلى عندِ الضابطِ الجويِّ (أو الطيار عام) ورئيسِ المخابراتِ ستافراكاكيس Stavrakakis، الذي كان ينتطرني في غرفةٍ هناك، والذي قال لي بغطرسةٍ وعنادٍ لا يَحتَمِلُ الجدل، أني لن أستطيعَ دخولَ اليونان، ولو مؤقتاً. لَم يَظهرْ الأصدقاءُ الذين تواعدنا معهم إلى الوسطِ هناك. وتراشَقنا الكلامَ حتى المساء. وبمحضِ صدفة، دخلَ على الخطِّ وسيطُنا الذي في موسكو نومان أوجار  Numan Uçarوهكذا، غيَّرنا وِجهَتَنا صوب موسكو على متنِ طائرةٍ يونانيةٍ خاصة. وعن طريقِ رئيسِ “الحزب الديمقراطيِّ الليبراليّ” جيرينوسكي، تمَكَّنّا من الهبوطِ في روسيا التي كانت تعاني الفوضى الاقتصاديةَ في تلك الأيام، ونجَحنا في الدخولِ إلى موسكو. لكنّ رئيسَ المخابراتِ الداخليةِ الروسيةِ انتصبَ أمامنا هذه المرة. وهو أيضاً كان متعجرفاً وعنيداً. لذا، ما كان بوسعِنا البقاءُ في تلك الظروف. فمكثتُ حوالي ثلاثةً وثلاثين يوماً بشكلٍ قِيلَ أنه سريّ. مَن نزلتُ عندهم واعتنَوا بي، كانوا ساسةً من أصولٍ يهودية. كنتُ مقتنعاً بصدقِهم. إذ كانوا يودون فعلاً إخفائي عن الأعين. لكن، ما كان لي أنْ أصادقَ على هذا الأسلوب. كان رئيسُ الوزراءِ الإسرائيليّ شارون  Şaron، ووزيرةُ الخارجيةِ الأمريكيةِ أولبرايت Allbright كانا قد وَفَدا إلى روسيا خلال تلك الفترة. أما رئيسُ الوزراءُ في روسيا، فكان بيريماكوف Pirimakov.  وجميعُهم من أصلٍ يهوديّ. علاوةً على أنّ رئيسُ الوزراءِ التركيّ مسعود يلماز أيضاً كان في حراكٍ حينها (ربما هكذا صحيح. أو القول أنه كان على تواصل معهم. أو..). وفي آخرِ المطاف، أَمَّنوا خروجي من هناك بعد الاتفاقِ على “مشروع التيار الأزرق ” وقرضٍ ماليٍّ من صندوق النقد الدوليِّ قدرُه عشرة مليارات من الدولارات.

تفضيلي الفوريُّ لموسكو، كان يتأتى من إيماني بأنه “أياً يَكُن، فقد عاشوا تجربةً اشتراكيةً دامت سبعةَ عقودٍ بأكملِها. لذا، سوف يقبلون بي بكلِّ يُسر، سواء بدافعٍ من مصلحتِهم، أم من الموقفِ الأمميّ”. ورغمَ انهيارِ نظامِهم، لكني لَم أتوقعْ أنْ يَكُونوا مُصابين بهذا القدرِ من الشحِّ المعنويّ. لقد كنا وجهاً لوجهٍ أمام أنقاضِ رأسماليةٍ بيروقراطيةٍ أنكى بكثير من الرأسماليةِ الليبرالية. لذا، أُصِبنا بخيبةِ الأملِ جراء موقفِ الأصدقاءِ الذين في موسكو، بقدرِ ما تسبَّبَ به الأصدقاءُ في أثينا على أقلِّ تقدير. أو بالأحرى، كان قد تجلى بوضوحٍ أنّ علاقاتِ الصداقةِ المعقودةَ لَم تَكُنْ مَحَلَّ ثقة.

بُنِيَ مسارُنا الثالثُ بمحضِ الصدفةِ ثانيةً على الاستفادةِ من علاقاتِنا في روما. فبدأنا مغامرةَ روما بمساعدةٍ من نائبَين صديقَين من صفوفِ “الحزب الشيوعي – البنية الجديدة”، والذي كان قد عُقِدَت العلاقةُ معه حديثاً. وهكذا، بدأَت أيامُنا التي كانت ستَطُولَ ستةً وستينَ يوماً في روما، ضمن السيناريو الاستعراضيِّ الذي قدَّمَته الاستخباراتُ الإيطاليةُ هذه المرة. كان موقفُ رئيسِ وزراء ذاك الوقتِ ماسيمو داليما Massimo D’Alema حميماً، ولكنْ ناقصاً. حيث عجزَ عن إعطاءِ الضمانِ السياسيِّ التامّ، وتركَ أمرَنا للقضاء. وكنتُ قد اغتظتُ من ذلك، فعقدتُ العزمَ على الخروجِ من إيطاليا في أولِ فرصةٍ سانحة. وفي تصريحٍ أدلى به في الأسبوعِ الأخير، كان قد أفادَ داليما أنه بوسعي البقاءُ في إيطاليا قدرَ ما أشاء. إلا إنني وجدتُ ذلك وكأنه موقفٌ مُتَّخَذٌ بالإكراه. وإنْ لَم يَخُنّي ظنّي، فقد حصلَت مبادرةٌ عربيةٌ مشتركةٌ في تلك الأثناء. حيث ذكروا لي أنهم يودّون أخذي إلى مكانٍ لَم يَبُوحوا به. لكني رفضتُ لغيابِ الرسميةِ والضمان.

كان ثاني ذهابٍ لي إلى روسيا خطأً. لكنّ السلوكَ الأرعنَ الذي اتَّبَعَه نومان أوجار كان قد لعبَ دورَه في ذلك. حيث انطلقتُ إلى هناك وأنا واثقٌ من ذاك الموقفِ الأرعنِ الذي لا أبرحُ جاهلاً لكلِّ خفاياه. ولو أنني كنتُ على علمٍ بوجهِه الباطنيّ، لَما خرجتُ من روما، بكلِّ تأكيد. لقد خُدِعت. أتذكرُ أنني تنفستُ الصعداءَ من الأعماق، فورَ خروجِنا من الساحةِ التابعةِ للناتو على متنِ الطائرةِ الخاصةِ بداليما. لكنّ هذا الموقفَ كان أَشبَهَ بمَن يستجيرُ مِن الرمضاءِ بالنار. وفي هذه المرة، أخَذَتني المخابراتُ الروسيةُ الداخليةُ إلى المطار، بعدما أَقنَعَتني بأنّ ذهابي سيَكُونُ صوب أرمينيا. وبِحُكمِ الاتفاقِ فيما بينهم حسب اعتقادي، قالوا لي في المطارِ أنّ الذهابَ إلى أرمينيا قد عُلِّق، وأنه بمقدوري الذهابُ إلى طاجكستان لمدةِ أسبوعٍ إنْ شئت، وأنه سوف يَجِدون البديلَ في غضونِ هذه المدة. وبعدَ نوعٍ من الخداع، أَقَلّوني على متنِ طائرةِ الحمولات Kargo، لتَحطَّ بي في عاصمةِ طاجكستان. وانتظرنا لمدةِ أسبوعٍ في غرفةٍ لَم نغادرها قط. ثم عُدنا أدراجَنا إلى موسكو مرةً أخرى. ومرةً ثانيةً استَجَرنا بالأصدقاءِ اليونانيين مُكرَهين. وخلال يومين انعطَفنا صوب أثينا ثانيةً، بعد يومَين مليئَين بالمغامراتِ والبردِ القارسِ والمُثلِجِ داخل موسكو.

وحسبما يَجُولُ بخاطري، فقد بِتُّ أهمسُ في قرارةِ نفسي أنني انجَرَرتُ هذه المرةَ إلى ألاعيبِ الآلهةِ الأولمبيةِ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. وكنتُ أتوسطُ تلك الأشباحَ الإلهيةَ تماماً. وكنتُ قد استذكرتُ الإلهَ هادس Hades على وجهِ التخصيص. حيث دخلتُ من صالةِ كبارِ الشخصياتِ في المطار. وفورَ دخولي بدأَت ملاحَقةُ إلهِ السعيرِ هادس لي بلا هوادة. وتمكنتُ من قضاءِ ليلةٍ واحدةٍ فقط، في المنزلِ المبَعثَرِ جداً لِحَماةِ صديقي ناغزاكيس Nagzakis، التي كانت أَشبَهَ بمُشعوذاتِ العصرِ القديم. كنتُ قد سألتُها “ما عساه يفعلُ بانغالوس Pangalos؟”. لكن، وكأنها كانت أشارت إلى مدى انقطاعِها عن حقائقِ العصرِ عندما أجابت “سيستثمرُ ذلك في الانتخابات”. لقد ذَكَّرَتني نوعاً ما بحقيقةِ الشعبِ اليونانيِّ القديمِ البالغِ في الأصالة، ولكنْ الخائرِ القوى أيضاً. وإثرَ تلك الليلة، بدأَ السيرُ نحو ما هو أقربُ إلى معسكرِ الموت. لقد كان هادس فقط يصولُ ويجولُ في الميدان. وكانت كلُّ الأقوالِ والأفعالِ مشحونةً بالزيفِ والرياء. أَوَلَم يَكُنْ ثمة عناصر وَفِيّة؟ كانوا موجودين. ولكنْ، ما كان بِيَدِ أيٍّ منهم أيةُ حيلةٍ في وجهِ وحشِ الحداثة. وأثناء الانطلاقِ صوب أفريقيا، بات رمزُ مانديلا Mandela نافذاً هذه المرة، تماماً مثلما كان رمزُ لينين نافذاً في الانطلاقِ صوب موسكو. فحسبَ المزاعم، كنتُ سأذهبُ إلى جنوبِ أفريقيا، وسأعقدُ العلاقاتِ الدبلوماسيةَ المتينةَ من جهة، وسأحظى بجوازِ سفرٍ رسميٍّ وساري المفعولِ من الجهةِ الأخرى. كان زيفُ الدولةِ اليونانيةِ قد أحرزَ النجاحَ في هذه اللعبةِ أيضاً. في الحقيقة، كان عليّ تعاطي الأمرِ إدراكاً مني بأنّ ديمقراطيةَ الشعبِ اليونانيِّ قد خُدِعَت طيلةَ التاريخِ من قِبَلِ هذا الطرفِ المُرائي، وأُوقِعَت في مخاضاتِ مآسي فجيعة. إلا إنّ إيماني بالصداقةِ كبراءةِ طفل، هو الذي سادَ في موقفي. وأثناء الخروجِ من اليونان، والتوجُّهِ إلى كِلا المطارَين، كان سائقا السيارةِ التي تُقِلُّني قد بذلا جهوداً مضنية، كي أعودَ إلى رُشدي، فأرفضَ الذهاب. وأعرَبا عن صدقِهما وإخلاصِهما بفعلِ كلَّ ما في وِسعِهما لتبيانِ مدى فداحةِ المؤامرةِ المُحاكة. قد يكونان – هما أيضاً – موظفَين من المرتبةِ الدنيا في المخابرات. فأولُهما صَدَمَ السيارةَ بالطائرة، مُعيقاً بذلك الذهاب. وثانيهما تَذَرَّعَ بحصولِ عُطب، فأَوقفَ السيارةَ سبعَ مراتٍ ولدقائق طويلة، في مكانٍ قريبٍ من المطارِ الذي يجبُ أنْ يَكُونَ سرياً. لكني كنتُ أثقُ بالوعودِ المقطوعةِ لدرجةِ أني لَم أتيقظْ لذلك بتاتاً. بل، وعلى النقيض، كنتُ أودُّ الذهابَ بسرعة، حباً مني في رؤيةِ ما يُخَبِّئُه لنا القدَرُ لحظةً قبل أخرى. كانت الطائرةُ وسيلةً تستخدمُها شبكةُ الغلاديو في التمشيطاتِ السرية.

لكن، كانت قد سَبَقَت ذلك رحلةٌ إلى مينسك . إذ كنتُ سأدخلُ الأراضي الهولنديةَ عن طريقِ مينسك قبل نيروبي. لذا، وعلى متنِ طائرةٍ خاصةٍ مرةً أخرى، انتظرتُ ما يزيدُ عن الساعتَين في أحضانِ البردِ القارسِ في مينسك. لكنّ الطائرةَ المنتَظَرةَ لَم تأتِ. وقامَ شرطةُ مطارِ روسيا البيضاء بتفتيشِ الطائرةِ دقائق عدة. يُحتَمَلُ أنهم كانوا سيتركونني في مطارِ مينسك، وربما كآخرِ فرصةٍ أمامي. وما تَبَقّى كان متروكاً لإنصافِ إدارةِ روسيا البيضاء. المثيرُ في الأمرِ أنّ وزيرَ الدفاعِ الوطنيِّ التركيِّ عصمت سزكين İsmet Sezgin أيضاً كان في زيارةٍ له إلى مينسك في تلك الأثناء. وعندما لَم تأتِ الطائرة، زُعِمَ أنّ آخِرَ فرصةٍ لنا قد أُفلِتَت من بين أيدينا. أما عودةُ أدراجِنا القهقرى، فكانت أَشبَهَ بـ”الموت الأبيض”. وعندما انسَلَّت طائرةُ الغلاديو في كبدِ سماءِ البحرِ الأبيضِ المتوسط، كنتُ قد شَبَّهتُ هذا الرحيلَ في سرودي اللاحقةِ برحلةِ قافلةِ القطارِ المُستَخدَمةِ في إبادةِ اليهود. فما تَمَثَّلَ في شخصي، كان ولوجَ أحرجِ أوقاتِ نظامِ الإبادةِ الجماعيةِ المُطَبَّقةِ على الشعب. وقد رأيتُ الوجهَ الباطنيَّ والحقيقيَّ للناتو، في غضونِ هذه الرحلات. وعندما عُدنا من مينسك، كان قد أُطلِقَ الإنذارُ بألا تَحُطَّ الطائرةُ في أيِّ مطارٍ أوروبيٍّ لمدةِ أربعٍ وعشرين ساعة. ما يُفهَمُ من ذلك أنه لَم يُترَكْ أيُّ مطارٍ يَقبَلُ بهبوطِ الطائرةِ فيه آنذاك، عدا مطارِ مينسك في روسيا البيضاء، الدولة الوحيدة العاقّة. وفي جهنمِ نيروبي، كان قد وُضِعَ أمامي ثلاثةُ سُبُل: أولُها؛ موتٌ مُزَيَّنٌ بمشهدٍ اشتباكيٍّ بحجةِ عدمِ الإذعانِ للأوامرِ لمدةٍ طويلة. ثانيها؛ امتثالي لأوامرِ وكالةِ الاستخباراتِ الأمريكية CIA دون جدل، واستسلامي لها. وثالثُها؛ تسليمي إلى وحداتِ الحربِ الخاصةِ التركية، المُعَدَّةِ منذ زمنٍ بعيد.

من بين الأشخاصِ الذين رافقوني في نيروبي، كانت ديلان متوترةً نفسياً. ولو أنها كانت صَرَّحَت عن أفكارِها بشكلٍ تام، ودفعَت منظماتِ المجتمعِ المدنيِّ إلى الحِراك؛ لَربما كان بمقدورِنا إفسادُ المؤامرةِ جزئياً، أو إفراغُها من مضمونِها كلياً. كنتُ قد رفضتُ اقتراحَها بحمايةِ نفسي بمسدس. ذلك أنّ هذا كان يعني الانتحارَ بالنسبةِ لنا، وبالنسبةِ لي. وما كان لي نيةٌ بالانتحار. وكانت تبذلُ قُصارى جهدِها وحتى آخِرِ لحظة، كي أتحصنَ بالمسدس. ولو كنتُ حاملاً للسلاح، وحاولتُ الضغطَ على الزناد؛ لَكان هذا الموقفُ سيَكُونُ الموتَ بعينِه دون بد. وأثناء فترةِ التحقيقِ اللاحق، قيلَ أنه كان قد أُطلِقَ الأمرُ بقتلي، في حالِ استخدامي السلاح. كما قالوا أنّ خروجي من السفارةِ أيضاً كان سيعني الموتَ المحتوم، وأفادوا بأني سلكتُ الموقفَ الأكثر عقلانية. لا أدري مدى صحةِ قولِهم ذاك. لكنّ موقفَ السفيرَ كوستولاس Kostulas في سياقِ الأسبوعَين اللذَين قضيتُهما في نيروبي، خليقٌ بالفهمِ حقاً. تُرى، هل كان مُسَخَّراً؟ أم كان قد أُعِدَّ كجزءٍ من المخططِ قبل ذلك بفترةٍ طويلة؟ أنا بنفسي لَم أستطعْ تحليلَ ذلك. هذا ولَم يأتِ البتةَ إلى منزلِه – الذي يُعَدُّ مكانَ إقامتِه أيضاً – قبل تسليمي. كما وكان تشاجرَ بِحِدّةٍ نوعاً ما مع زبانيةِ نيروبي، بسببِ رغبتِهم فيما كان أَشبَهَ بإكراهي على الخروجِ من السفارة. ولكن، قد يَكُونُ موقفُه ذاك زائفاً ومُرائياً. وفي هذه المرةِ أيضاً كان بانغالوس قد استصدرَ الإذنَ للذهابِ إلى هولندا حسبما زُعِم. لكني لَم أَثِقْ بذلك كثيراً حينها، لأنّ الوحداتِ الخاصةَ اليونانيةَ كانت ترصدُ الفرصةَ المواتيةَ للمداهمةِ بغيةَ إخراجي رغماً عني، في حالِ رفضي الخروجَ من المنزل. كما وكانت الشرطةُ الكينيةُ أيضاً متأهبةً لفعلِ الشيءِ عينِه. وبطبيعةِ الحال، فالذهابُ إلى جمهوريةِ أفريقيا الجنوبيةِ كان قد أمسى حكايةَ تضليلٍ وخداعٍ منذ أَمَدٍ غابر. أما السيناريوهاتُ من قبيلِ اللوذِ إلى الكنيسةِ أو هيئةِ الأممِ المتحدة، فكانت محفوفةً بالظنونِ والمخاوف. لذا، أصَرَّيتُ بعنادٍ على عدمِ الخروج.

كانت مذهلةً فترةُ الشهورِ الأربعةِ الممتدةِ من 9 تشرين الأول 1998 حتى 15 شباط 1999. وما كان لأيةِ قوةٍ في العالَمِ عدا أمريكا، أنْ تُرَتِّبَ لهذا التمشيطِ الممتدِّ أربعةَ أشهرٍ بحالِها في تلك المرحلة. أما دورُ قواتِ الحربِ الخاصةِ التركية حينذاك (رئيسُ تلك القواتِ كان الجنرال أنكين آلان Engin Alan)) فكان منحصراً في نقلي إلى إمرالي على متنِ الطائرة، وذلك تحت الإشراف. كانت فترةً شاهدةً على تنفيذِ أهمِّ العملياتِ التي عرفَها تاريخُ الناتو بالتأكيد. وقد كان هذا ساطعاً بجلاء، إلى درجةِ استحالةِ سلوكِ أيِّ تصرفٍ شاذٍّ في أيِّ مكانٍ وَطَأناه. أما مَن تصرفَ منهم، فشُلَّ تأثيرُهم على الفور. في حين إنّ موقفَ اليونانيين كان كافياً أساساً لإيضاحِ كلِّ شيء. كما إنّ الإجراءاتِ الأمنيةَ المُتَّخَذةَ داخلَ وخارجَ المنزلِ الذي أقمتُ فيه بروما، كانت تسردُ الوضعَ على المَلأ إلى حدٍّ كبير. لقد كانوا اتَّخذوا تدابيراً استثنائيةً بخصوصِ الأَسْر. ولَم يَسمحوا حتى بخطوِ خطوةٍ واحدةٍ إلى الخارج. وكانت وحداتُ الأمنِ الخاصةُ تراقبُ على مدارِ الساعةِ كلَّ مكان، وحتى باب غرفتي. كانت حكومةُ داليما يساريةً ديمقراطية. وكان داليما قليلَ الخبرة، وقاصراً عن اتخاذِ قرارٍ بمفردِه. لقد زارَ كلَّ البلدانِ الأوروبية. وبَيَّنَت إنكلترا له ضرورةَ اتخاذِه قرارَه الذاتيّ، ولَم تتعاونْ معه كثيراً. في حين كان موقفُ بروكسل غامضاً. وفي النتيجةِ أُحِلنا إلى القضاء. هذا وكان محالاً عدمُ رؤيةِ تأثير الغلاديو في اتخاذِ هذا الموقف. وبالأصل، فإيطاليا كانت واحدةً من البلدانِ التي يتمتعُ الغلاديو فيها بالثباتِ والرسوخ. كان برلسكوني Berlusconi قد استنفرَ كافةَ قواه. وهو بذاتِه كان رجلَ الغلاديو. ولأنني علمتُ بعدمِ قدرةِ إيطاليا على تحمُّلي، كنتُ مُرغَماً على الخروج. وبالطبع، كانت تركيا قد صُيِّرَت مقابل ذلك واحدةً من أكثرِ البلدانِ التي تَثِقُ بها أمريكا وإسرائيل، بعدَما جعلتاها تَدورُ في فلكِهما. من هنا، فالسياقُ الذي يُوصَفُ بعولمتِها الطائشة، ما هو في واقعِ الأمرِ سوى حكايةُ تقديمِ تركيا هِبَةً للرأسماليةِ الماليةِ العالمية.

إنّ سيناريو احتلالِ العراقِ أيضاً مرتبطٌ بِعُرى وثيقةٍ بمسألةِ تسليمي. وفي الحقيقة، فقد بدأَ الاحتلالُ مع التمشيطِ الذي استَهدَفَني. والأمرُ عينُه يَسري على احتلالِ أفغانستان أيضاً. أو بالأصح، فإحدى وأولى الخطواتِ المفتاحِ على دربِ تطبيقِ “مشروعِ الشرق الأوسط الكبير”، كان ذاك التمشيطَ الذي استهدفَني. فقولُ أجاويد: “لَم أفهمْ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ سببَ تسليمِ أوجالان لنا”، لَم يَكُ عن عبث. فكيفما أنّ الحربَ العالميةَ الأولى اشتعلَت شرارتُها مع قتلِ وليِّ عهدِ النمسا على يدِ قومويٍّ صربيٍّ متطرف، فإنّ ضرباً من “الحربِ العالميةِ الثالثةِ” أيضاً، كان قد ابتدأَ مع التمشيطِ المستهدِفِ إياي. ولكي نستوعبَ السياقَ اللاحقَ للتمشيط، فمن الضرورةِ بمكان إدراك الأحداثِ الجاريةِ قُبَيلَ وأثناءَ التمشيطِ بأحسنِ وجه. ولكي يتحادثَ الرئيسُ الأمريكيُّ كلينتون مع الرئيسِ حافظ الأسد حول إشكاليةِ إخراجي من سوريا، التقى معه في اجتماعَين داما لأكثر من أربعِ ساعات، بحيث عُقِدَ أحدُهما في دمشق، والثاني في سويسرا. وخلال هذَين اللقاءَين انتبَهَ حافظ الأسد إلى أهميةِ منزلتي وشأني، فارتأى المماطلةَ أنسبَ له. ولَم يتقدمْ، ولو مؤقتاً، بأيِّ طلبٍ بشأنِ خروجي من سوريا. بل كان يودُّ الاستفادةَ من ذلك حتى الأخيرِ كعنصرِ مُوازنةٍ جيدٍ إزاء تركيا. أما أنا، فأَرغَمتُ سوريا على اتخاذِ موقفٍ استراتيجيّ. إلا إنّ قوتي أو وضعي آنذاك لَم يَكُنْ يُخَوِّلُني لإنجاحِ ذلك. ولو أني كنتُ في إيران، لَربما كنتُ قادراً على عقدِ تحالفٍ استراتيجيّ. لكني لَم أَكُنْ أستطيعُ الثقةَ بإيران أيضاً في هذا المضمار، بل كنتُ أتحاشى مواقفَها الكلاسيكية (كجناياتِ قتلِ سمكو وقاسملو ومثيلاتِها من المؤامرات، والمكائدِ والألاعيبِ الضاربةِ بجذورِها في القِدَمِ وصولاً إلى عهدِ الإطاحةِ بالمَلِكِ الميديِّ أستياغ على يدِ هرباكوس). كان كلينتون والقياداتُ الكرديةُ المتعاملةُ معه لا يَعتَبِرون تواجدي في سوريا أمراً يتناسَبُ ومآربَهم الإستراتيجية. ذلك أنّ كردستان والكردَ كانوا يخرجون من تحت سيطرتِهم تدريجياً. كما كانت إسرائيل أيضاً مغتاظةً جداً من هذا الوضع. فمجرى الأحداثِ في كردستان، وانفلاتُ زمامِ السيطرةِ على الكرد من بين أيديهم، كان وضعاً لا يُطاقُ قبولُه بالنسبةِ إليهم. حيث إنّ إحكامَ قبضتِهم على كردستان، كان يتسمُ بدورٍ مصيريٍّ على صعيدِ تطبيقِ مشاريعِهم المتعلقةِ بالعراق خصوصاً. وعليه، كان يُفرَضُ عليَّ الخروجُ من هناك دون بد، ووضعي حداً نهائياً للهويةِ الكرديةِ المستقلةِ ولنهجِ الحريةِ بما لا يقبلُ الجدل.

في حين كان حزبُنا ونهجُ الحريةِ لدينا سببَ وجودِنا. كانت أمريكا وإنكلترا مُرغَمتَين على الوفاءِ بالعهدِ الذي أقسَمتا عليه أمام تركيا منذ سنةِ 1925 (التضحية بكردستان تركيا، بشرطِ عدمِ المساسِ بكردستان العراق). وعلى خلفيةِ ذلك، كانت تركيا قد دخلَت حلفَ الناتو، وكانتا قد اتفقتا معها بشأنِ القضيةِ الكرديةِ أيضاً. بينما موقعُنا وإستراتيجيتنا كانت خطراً يهددُ هذا التوازنَ وتلك الهيمنةَ السائدَين في منطقةِ الشرقِ الأوسط التي تتميزُ بعظيمِ الأهميةِ تقليدياً وراهناً على السواء. فكان إما أنْ نلتحقَ بمدارِ تلك الهيمنة، أو أنْ يُقضى علينا. أما الجمهوريةُ التركية، فكانت ترمي إلى الاستفادةِ من المعاهداتِ التي أبرَمَتها مع قوى الهيمنةِ تلك منذ عامِ 1925 (اتفاقية 1926 بشأن الموصل وكركوك، ودخول الناتو في 1952، واتفاقيتا 1958 و1996 المُبرَمتان مع إسرائيل)، بتوظيفِها في محوِ الكردِ من صفحاتِ التاريخ. كانت الإيديولوجيا الوضعيةُ القومويةُ العلمانيةُ تزودها بإمكانيةِ ذلك. وكان الكادرُ الجمهوريُّ قد أُقنِعَ بذلك. في الواقع، كان هذا وضعاً مُخالفاً للغاية عن روحِ واتفاقِ العلاقاتِ التركيةِ – الكردية. ولكن، كان وكأنه ما مِن طيشٍ إلا وسيفعلُه النظام، انطلاقاً من حساباتِه في تشييدِ إسرائيل. وتأسيساً على ذلك كان قد أُنشِئَت الأيديولوجيةُ المُصطَنَعةُ المُسماةُ بالحقيقةِ التركياتيةِ البيضاء وكيانِها الكادريِّ والطبقيّ. علاوةً على أنّ PKK كان قد أَلحقَ الضربةَ المميتةَ بذلك الكيان. حيث إنّ القبولَ بالهويةِ الكرديةِ والاعترافَ بخصوصيتِها، كان يعني إنكارَ ذاك الكيان، أو يقتضي التراجعَ عن تلك السياساتِ المميتةِ بأقلِّ تقدير. بينما المعاهداتُ المُبرَمةُ مع إسرائيل كانت تتحلى بمعاني مصيرية بالنسبةِ إلى ذاك الكيان. وبالأساس، كانت الدولةُ القوميةُ التركيةُ قد شُيِّدَت كإسرائيل بِدئية.

عُمِلَ على إنشاءِ كيانٍ كرديٍّ أبيض مماثلٍ أيضاً، ارتباطاً بـKDP  فعلى صعيدِ وجودِهم (من أجلِ أمنِ إسرائيل ومصالحِ الهيمنةِ لقوى الغربِ على منطقةِ الشرقِ الأوسط، وفي مقدمتِها أمريكا وإنكلترا)، كانوا يُولون الأهميةَ المصيريةَ إلى اختلاقِ قوتَين متماثلتَين بين صفوفِ الأتراكِ والكردِ على حدٍّ سواء، بحيث تنبثقان من نفسِ المركز، وتَكُونان على تنافُرٍ وتناقضٍ فيما بينهما. هكذا، فصونُ منافعِهم في المنطقةِ تأسيساً على هاتَين القوتَين التابعتَين لهما، ولكنْ المتنازعتَين فيما بينهما؛ كانت سياسةً عاقلةً إلى أبعدِ الحدود. إلا إنّ ظهورَ PKK كان يُفسِدُ عليهم هذه اللعبةَ السائدةَ تاريخياً بقدرِ ما هي ساريةٌ في الوقتِ الراهنِ أيضاً. وولادةُ فرصةِ السلامِ والحلِّ في سنتَي 1993 و1998، إنما كان يعني النهايةَ المحتومةَ لهذه اللعبة. ولذلك بالتحديد لَم يُسمَحْ بهكذا نمطٍ من الحلّ، فدُبِّرَ لاغتيالاتٍ ومكائد كبيرة. بمعنى آخر، فإنقاذُ PKK للكردِ من نيرِ السيطرةِ والتحكم، وتأمينُ مسالَمَتِهم مع المجتمعاتِ والدولِ الأخرى يتقدمُها الأتراك؛ كان يعني إلحاقَ ضربةٍ استراتيجيةٍ قاضية بألاعيبِ الهيمنةِ لتلك القوى في منطقةِ الشرقِ الأوسط، وبسيرورةِ منافعِها. هذه النقاطُ التي بمقدورِنا ترتيبُ حججِها على نحوٍ أشمل، إنما تبرهنُ كفايةً أسبابَ كونِ مؤامرةِ 1988 عظيمةَ الشأنِ وإستراتيجيةَ المأرب.

كان كلينتون يَخُصُّ حملةَ الهيمنةِ تلك بأهميةٍ بليغةٍ في تلك الفترة، مُشَدِّداً دائماً على مدى أهميةِ دورِ تركيا أيضاً في ذلك. وكان مستشارُه الخاصُّ الجنرال جالتيري  Galtieri، قد صرَّحَ بذاتِ نفسِه أنّهم أشرَفوا على التمشيطِ الذي استهدَفَني بأمرٍ مباشرٍ من كلينتون. أما فيما يتعلقُ بموضوعِ “الحرب العالمية الثالثة”، فيَكفي لاستيعابِ حقيقةِ هذه الحرب، بأنْ ننتبهَ إلى كونِ إحصائياتِ الأحداثِ والمجرياتِ القائمةِ في العديدِ من البلدانِ الرئيسية، يتصدرُها في هذا السياقِ كلٌّ من العراق وأفغانستان ولبنان وباكستان وتركيا واليمن والصومال ومصر؛ قد تخطَّت منذ زمنٍ سحيق، وعلى أصعدةٍ مختلفة، إحصائياتِ الحربَين العالميتَين الأولى والثانيةِ. أما كونُ “الحربِ العالميةِ الثالثةِ” ستَكُونُ متقطعةً وغيرَ متواصلة، وممتدةً على مسارٍ زمنيٍّ بعيدِ المدى، وستُسَيَّرُ بتقنياتٍ مختلفةٍ ومغايرة؛ فهو أمرٌ مفهومٌ من الأساس، بسببِ الأسلحةِ النووية. وقمةُ لشبونة التي عقدَها الناتو مؤخراً، وتشديدُ أمريكا طوقَ الحصارِ حول إيران؛ إنما يزوِّدُنا بالمعلومةِ اللازمةِ بشأنِ مجرى “الحربِ العالميةِ الثالثة”.

إنّ “الحربَ العالميةَ الثالثةَ” حقيقةٌ قائمة. ومِحورُها المركزيُّ هو جغرافيا الشرقِ الأوسطِ وأوساطُها الثقافية. والأحداثُ المُعاشةُ في العراقِ لوحدِه بصفتِه مركزَ تَرَكُّزِ “الحربِ العالميةِ الثالثة”، إنما توضحُ بشكلٍ كافٍ ووافٍ كونَ الحربِ المندلعةِ فيه ليست معنيةً ببلدٍ واحد، بل وبمصالحِ ووجودِ قوى الهيمنةِ العالميةِ أيضاً. ولا يمكنُ إنهاءُ هذه الحرب، إلا بشلِّ تأثيرِ إيران كلياً، وباستتبابِ الأمنِ والاستقرار في أفغانستان والعراق، وبإخراجِ كلٍّ من الصين وأمريكا اللاتينيةِ من كونِهما عنصرَ تهديد. وعليه، لا زلنا في منتصفِ الحربِ التي ستَدومُ فترةً قد تصلُ إلى عشرِ سنواتٍ أُخرى بأقلِّ تقدير (وآخِرُ المخططاتِ الإستراتيجية للناتو أيضاً، ترتأي مدةً قدرُها عشرُ سنوات). ليس صحيحاً من جهةِ العلومِ الاجتماعيةِ الجزمُ بأنها ستَكُون كذلك فعلاً، لكنّ هذا احتمالٌ راجح. وستتركزُ الدبلوماسيةُ فيها أحياناً، والعنفُ أحياناً أخرى. وسيجري التدخلُ في الأجندةِ عبر أزماتٍ اقتصاديةٍ شديدةٍ ومضبوطة. سوف تتغيرُ أولوياتُ المناطقِ والساحات، لكنّ الحربَ ستستمرُّ في العديدِ منها بمنوالٍ شموليّ، سواء بهذا الشكلِ أو ذاك. من هنا، لن يَكُونَ بالوسعِ الفهمِ بأفضلِ صورةٍ لدوافعِ تسييرِ تمشيطِ 1998 الذي استهدفَني على الصعيدِ الدوليّ، ولأسبابِ كونِه أكبرَ تمشيطٍ للغلاديو يُدبرُه الناتو؛ إلا في حالِ وضعِ هذه الطبيعةِ الأساسيةِ للحربِ نُصبَ العين. وما لا شكَّ فيه، هو أنّ مَن يربحُ دوماً في الحروبِ الكبرى ليس قوى الهيمنةِ فقط. بل قد تكسبُ الشعوبُ أيضاً الكثيرَ الوفير. بل وقد تخسرُ قوى الهيمنةِ على صعيدِ النظام، وتكسبُ الشعوبُ بالمقابل، وعلى صعيدِ النظامِ أيضاً.

مرحلةُ إمرالي.

دارت المساعي لتطبيقِ أهمِّ فصلٍ من فصولِ مؤامرةِ الغلاديو الكبرى على أرضِ الواقعِ في جزيرةِ إمرالي. فوظيفةُ رئيسِ الوحدةِ التي جلبَتني إلى الجزيرة، الجنرال أنكين آلان، تكفي وحدَها لتسليطِ الضوءِ على هذه الحقيقة. إذ كان قائدَ القواتِ الخاصةِ آنذاك، أي بمثابةِ الرئيسِ الرسميِّ للغلاديو التركيّ. أما موقفُ مسؤولِ المفوضيةِ الأوروبيّة، والذي استقبَلَني في الجزيرة؛ فكانت تكشفُ النقابَ أكثر عن بُعدِ المؤامرةِ المتعلقِ بالاتحادِ الأوروبيّ. وهكذا كانت قد طفَت على وجهِ الماءِ المعاهدةُ المُبرَمةُ بين أمريكا والاتحادِ الأوروبيِّ والإدارةِ التركية. وعليه، ما من برهانٍ قاطعٍ ومُنَوِّرٍ على أنّ التمشيطَ قد سُيِّرَ على يدِ غلاديو الناتو، وبرعايةٍ سياسيةٍ أمريكيةٍ وأوروبيّة؛ أكثرَ من هذه الدلائلِ الثلاثة (المستشار الخاصُّ بالرئيسِ الأمريكيِّ كلينتون الجنرال جالتيري؛ والفتاةُ المسؤولةُ باسمِ المفوضيةِ السياسيةِ للاتحادِ الأوروبيّ؛ ورئيسُ قيادةِ القواتِ الخاصة التركية، أنكين آلان). وقَبل هذه الحقائقِ التي كانت ستبرزُ إلى الوسطِ لاحقاً، لَم يَكُنْ يساورني الشكُّ في أنّ قواتِ الأمنِ في الحكومةِ التركيةِ ليست هي القوةَ التي تشلُّ تأثيري وتكبحُ جماحي؛ إلا إني كنتُ عاجزاً عن إدراكِ آليةِ التمشيطِ بصورةٍ تامة. حيث كان السياقُ يُعكَسُ بنحوٍ مغايرٍ تماماً لِما هو عليه في أرضِ الواقع. وكان ثمة عنادٌ شديدٌ على خلقِ أجواءٍ تُومِئُ بأنّ الحكومةَ التركيةَ تسحقُنا وتجني ثمارَ قمعِها. فعدمُ علمِ حتى رئيسِ الوزراءِ بولند أجاويد بدايةً بأسبابِ اعتقالِهم لي، وجهلُه بدوافعِ رغبتِهم في إعادتي إليهم؛ إنما هو برهانٌ حاسمٌ يُثبِتُ مصداقيةَ ادعائي هذا. وسوف تُبَرهَنُ صحةُ ادعائي، مع زيادةِ الغوصِ في تحليلِ الأحداثِ والمستجدات.

أولُ مَن استقبلَني في الجزيرة، كان جندياً برتبةِ عقيد، ويرتدي البزةَ العسكرية. وكان قد عرَّفَ نفسَه على أنه ممثلٌ عن هيئةِ الأركانِ العامة. وهو مَن قامَ بالمحادثاتِ الهامةِ التي وجدَ أنه من المفيدِ أنْ تنحصرَ بِكِلَينا فقط، وتبقى سرية. هذا وكان لنفسِ المسؤولِ أحاديثُه الهامةُ والمختلفة، عندما بدأَ التحقيقُ رسمياً بعد ذلك أيضاً. وكان قد استمرَّ عشرةَ أيامٍ ذاك الاستجوابُ الذي أجرَته هيئةٌ مؤلَّفةٌ من أربعِ خلايا أمنية (هيئة الأركان العامة، قوات الدرك، مديرية الأمن، والمخابرات الوطنية). وقد تَخَلَّلَه حديثٌ لي مسجَّلٌ على الكاسيت، وموجَّهٌ إلى قياداتِ تلك القوات. كما وأُجرِيَت بعد ذلك أيضاً محادثاتٌ متبادَلةٌ بمثابةِ دردشةٍ دامت لشهور. وكانت شخصياتٌ أخرى تدخلُ الأجندةَ في  بعضِ الأحايين، كما كانت تأتي هيئاتٌ من أوروبا بين الفينةِ والفينة.

المؤامرةَ هي بمنزلةِ الروحِ في فنِّ السلطة، أو هي أهمُّ وسيلةٍ فيه

أوليتُ الأولويةَ لمفهومِ مرافعةٍ تضعُ ماهيةَ المؤامرةِ الدوليةِ نُصبَ العينِ فيما يخصُّ سياقَ إمرالي. فالمتحركون باسمِ التركياتيةِ كانوا قد بتَروا أواصرَهم مع الحقيقة، بسببِ ثِقَلِ وطأةِ الوعيِ التركياتيِّ الذي يَحيَونه. بالتالي، فإدراكُهم الفلسفةَ المتسترةَ وراء المؤامرة، كان مخالفاً لطبيعتِهم. ذلك أنهم – هم أيضاً – كانوا ثمارَ البنى التي شادَتها فلسفةُ المؤامرةِ تلك طيلةَ مائةِ عامٍ على الأقلّ. وعليه، كان من غيرِ المتوقَّعِ أنْ يتنكروا لتلك البنى المُشادة، أو يتناولوها بعينٍ ناقدة. كما وكان لا طائل من انتظارِ أنْ يُبدوا أيةَ إرادةٍ للتغيرِ الإيجابيِّ لديهم، سواء أثناء كوميديا المحاكمة، أم خلال سياقِ الاعتقال. أما تصديقُ أنه سيتمُّ التصرفُ بمقتضى الأقوالِ التي همَسَ بها ممثلُ رئاسةِ الأركانِ العامة، فكان سيغدو سذاجةً وبساطة في ظلِّ الظروفِ القائمة. فبالأصل، إنهم مجرَّدون من قوةِ القرارِ التي تُخَوِّلُهم لتطبيقِ أقوالِه. لقد ابتُكِرَ نظامٌ تدعمُه أمريكا في الخفاء، ويشرفُ عليه الاتحادُ الأوروبيّ. أما تصميمُ هذا النظام، فكان يُعزى إلى إنكلترا، في حين أنّ تطبيقَه كان من حصةِ الأتراك. من عظيمِ الأهميةِ استيعابُ الذهنيةِ الفلسفيةِ والسياسيةِ الكامنةِ خلف المؤامرة. ولذلك أتحدثُ مِراراً وتكراراً عن خلفيةِ المؤامرةِ التي تشملُ عصراً بأكملِه، وأُصَرِّحُ بذلك في كلِّ فرصةٍ مواتية. كما وتطرقتُ إلى المؤامراتِ التي تُعَدُّ حجرَ زاويةٍ في عهدِها. ومنها فيما يتعلقُ بالكردِ فحسب: مؤامرة الألوية الحميدية، مؤامرتا قتلِ الملا سليم  في بدليس سنةَ 1914 والشيخ سعيد في 1925، ومؤامرتا آغري 1930 وديرسم 1937، قضية الـ49 عامَ 1959 وقضية الـ400 عامَ 1960، قتل فائق بوجاق Faik Bucak، قتل سعيد قرمزي توبراق على يدِ KDP، إضافةً إلى المؤامراتِ التي بالمقدورِ ترتيبُ المئاتِ منها دفعةً واحدة، والممتدةُ منذ المرحلةِ الأيديولوجيةِ لـPKK  إلى يومِنا الراهن، والتي تُحاكُ من طرفِ العقليةِ عينِها. إنّ مُدَبِّري المؤامراتِ يَعتَبِرونها فنَّ سلطةٍ مُرَتَّباً ببراعةٍ فائقة. أي أنّ المؤامرةَ بمنزلةِ الروحِ في فنِّ السلطة، أو هي أهمُّ وسيلةٍ فيه. وكان من الضروريِّ تسييرِ هذا الفنِّ بالنسبةِ إلى الكردِ على خلفيةِ المؤامرةِ دون بد. ذلك أنّ تنفيذَ المؤامرةِ بأسلوبٍ علنيّ، كان سيفضي إلى قولِ الطفل: “انظري يا أمي، المَلِكُ عارٍ”. من هنا، فقوةُ السلطةِ التي تَهدفُ إلى تطبيقِ أفعالٍ تَصِلُ حدَّ التطهيرِ الجماعيّ، لن يَكُونَ في حوزتِها من أداةٍ سوى المؤامرةُ والعقليةُ التي تُحَدِّدُ مسارَها. المهمُّ هنا هو التعرفُ الصحيحُ على القوى المندرجةِ في سياقِ المؤامرة، والتعريفُ السليمُ لها.

عليَّ التبيانُ بأني لاقيتُ صعوبةً في هذا الموضوعِ خلال سياقِ إمرالي. فموضوعُ الحديثِ هنا هو تواجُدُ قوى متنافرةٍ فيما بينها إلى أبعدِ حدٍّ داخل المؤامرة. حيث كانت أُدرِجَت كثيرٌ من الدولِ ضمنها، بدءاً من أمريكا إلى الفيدراليةِ الروسية، ومن الاتحادِ الأوروبيِّ إلى الجامعةِ العربية، ومن تركيا إلى اليونان، ومن كينيا إلى طاجكستان. فما الذي كان قد وَحَّدَ الأتراكَ واليونانيين بعدَ عداءِ عصورٍ بحالِها؟ ولِمَ كان يُعقَدُ على حسابي كلُّ هذا الكمِّ من التحالفاتِ أو اتحاد المنافعِ غيرِ المبدئية؟ زِدْ على ذلك أنّ الأتراكَ والكردَ اليساريين والقوميين المتواطئين المغتبطين في قَرارةِ أنفسِهم جراء استهدافي، كانوا كُثُراً بدرجةٍ لا تُعَدُّ ولا تحصى. وكأنّ العالَمَ الرسميَّ قد أوقَعَ أخطرَ رقيبٍ له في الفخِّ متجسداً في شخصيتي. وضمن صفوفِ PKK أيضاً، كان من العصيبِ الاستخفافُ بتعدادِ أولئك الذين اعتقدوا بأنّ اليومَ يومُهم، وأنه آنَ الأوانُ ليعيشوا على هواهم. لكنّ ما لا جدال فيه، هو أنّ تعريفاً عاماً ورئيسياً، سيَبسطُ للعَيانِ كونَ كافةِ تلك القوى تتشكلُ من الشرائحِ التي تحتلُّ الصَدارةَ في لائحةِ أولئك اللاهثين وراء المنافعِ الليبراليةِ للحداثةِ الرأسمالية. وأنا كنتُ خطراً يهددُ المصالحَ والعقليةَ الليبراليةَ الفاشيةَ لِجُلِّهم.

فمثلاً؛ إنكلترا هي الأكثر خبرةً من بين تلك القوى. وهي القوةُ التي أطلقَت الرصاصةَ الأولى للإنذارِ بعدمِ السماحِ بمزاولتي السياسةَ ضمن أوروبا. وما أنْ وطأَت قدماي أرضَ أوروبا، حتى سارعَت لإعلاني “persona non grata” أي “الشخص المنبوذ”. لَم تَكُ هذه خطوةً بسيطة، بل كانت إحدى الخطواتِ التي  تقررُ النتيجةَ النهائيةَ سلفاً. حسناً، ولماذا اتُّخِذَ إزائي هكذا موقفٌ فوريٌّ لَم يُتَّخَذْ حتى إزاء خميني أو لينين؟ لقد سعيتُ إلى توضيحِ العديدِ من البوادرِ والعلائمِ المعنيةِ بذلك في العديدِ من فصولِ مرافعتي. لذا، لا داعي لمزيدٍ من التكرار. وباقتضاب؛ كنتُ حجرَ عثرةٍ لا يُستَهانُ به على دربِ حساباتِ الهيمنةِ المُعَمِّرةِ قرنَين من الزمنِ بشأنِ الشرقِ الأوسط، وبالأخصِّ بسببِ سياساتِها المتعلقةِ بكردستان (باختصار، بسببِ السياسةِ التي مفادُها “إليكَ كركوك والموصل، واقضِ على الكردِ لديك”). وكنتُ قد أمسيتُ خطراً يهددُ كلَّ مخططاتِها، ويقضُّ مضاجعَ منفذيها. أما هَمُّ أمريكا، فكان مختلفاً. إذ كانت لها مطامعُها في إدراجِ “مشروعِ الشرقِ الأوسطِ الكبير” في جدولِ الأعمال. لذا، كانت المستجداتُ الجاريةُ في كردستان ذاتَ أهميةٍ حياتيةٍ وحرجة. بالتالي، فشَلُّ تأثيري بشكلٍ مطلق، كان ضرورةً من ضروراتِ الأجواءِ السائدة على الأقل. هذا وكان القضاءُ عليُّ يتناسبُ والسياساتِ العالميةَ في تلك الأيام. أما روسيا التي كانت تمرُّ بأزمةٍ اقتصاديةٍ بالغةِ الأهميةِ في تاريخِها، فكانت في مسيسِ الحاجةِ إلى قرضِ مَعونةٍ عاجلة. ولَئِنْ كان سيصبحُ دواءً لدائِها، فلن يبقى أيُّ سببٍ لعدمِ لعبِ دورِها واحتلالِ مكانِها في المؤامرةِ المُحاكةِ ضدي. أما الآخرون، فكانوا من الأساسِ “كالإخوةِ الصغارِ المهذَّبين والطائعين لأخيهم الأكبر” الذي يُعَدُّ تاجاً على رؤوسِهم، مهما قال. في حين إنها كانت فرصةً سانحةً لأجلِ كلٍّ من اليسارِ التركيِّ (عدا الاستثناءات) والمتواطئين الكردِ والمستائين داخل PKK، كي يتخلصوا من رقيبٍ منافِسٍ له وزنُه. وفي نهايةِ المآل، فالفلسفةُ الكامنةُ في الأغوارِ السحيقةِ لجميعِ هذه المواقف، كانت فلسفةَ المصالحِ اليوميةِ والمنفعيةِ والأنانيةِ في الليبرالية.

أعتقدُ أني أسلطُ النورَ أكثر قليلاً على الحقيقة، عندما أقولُ ذلك. فمناصَرةُ حريةِ كردستان ونيلِ الكردِ هويتَهم في تلك الأيام، كان يقتضي تذليلَ شتى أشكالِ المصالحِ الليبراليةِ اليوميةِ والبراغمائيةِ والأنانية، ويأمرُنا بالتخلي عن حياةِ الحداثةِ الرأسماليةِ بيمينِها ويسارِها، ويُرغِمُنا على الانتفاضِ في وجهِها. وخِلافَ ذلك، فعالَمُ تلك الأوقات، كان عالَمَ الأيامِ الشاهدةِ على انتعاشِ الليبراليةِ العالميةِ في حربِ غزوِها للعالَم. كانت تُعاشُ آنئذٍ السنواتُ التي أَعلَنَت فيها الفاشيةُ الليبراليةُ سيادتَها عالمياً. أما من الناحيةِ السياسية، فكانت منطقةُ الشرقِ الأوسطِ تمثلُ بؤرةَ صراعِ الهيمنة. لذا، كان الصراعُ على كردستان يتسمُ بدورِ المفتاحِ من جهةِ حساباتِ الهيمنة. وكان شأنُ PKK الأيديولوجيُّ والسياسيُّ على تناقضٍ صريحٍ مع تلك الحسابات. بناءً عليه، فالقضاءُ عليه كان يعني إفساحَ المجالِ أمامَها.

انتعشَت كلُّ هذه الحساباتُ التاريخيةُ مرةً أخرى ضمن دوامةِ إمرالي، متمثلةً في شخصي. ولكي أستطيعَ تحليلَ سياقِ إمرالي، كان يتعينُ أن أتمتعَ بوعيٍ قادرٍ على الانتباهِ إلى صراعِ المصالحِ اليوميةِ المرتكزةِ إلى خلفيةٍ تاريخيةٍ طويلةِ المدى. الخاصيةُ الهامةُ الأخرى التي ينبغي توخي الحساسيةِ الفائقةِ إزاءها بشأنِ الحساباتِ التآمريةِ للنظامِ المهيمن، هي عدمُ التحولِ إلى آلةٍ بِيَدِ سياستِه “فَرِّقْ تَسُد” المرتبةِ بمهارةٍ والمسَلَّطةِ على المنطقةِ ببراعةٍ خلال القرنَين الأخيرَين، وعدمُ السماحِ بالدخولِ في منفعةِ تلك القوى بشأنِ تجذيرِ الصراعِ التركيِّ – الكرديِّ الذي ترمي إليه بشكلٍ خاص. لكنّ كلاً من الأرمن، الإغريق، البنى الأثنيةِ في بلادِ البلقان، العرب، السُّريان، الأتراك، والكردِ الذين أضحوا آلةً في يدِ تلك السياسات، كانوا قد خسروا الكثير. فبعضُ هؤلاء كان قد استُئصِلَ من وطنِه وجُرِّدَ من ثقافتِه المُعَمِّرةِ آلافَ السنين، وبعضُهم الآخرُ أُخرِجَ حتى من كونِه مجتمعاً وطنياً. علاوةً على أنّ قوى عديدةً كانت تضمرُ الحقدَ تجاه الكردِ لعيشِهم المشتركِ مع الأتراك. وهكذا، فإنّ هذه الوحدةَ التي ما فتئَت تحافظُ على أهميتِها الإستراتيجية منذ معركةِ ملازكرد، قد ذهبَت أدراجَ الرياحِ مع سياسةِ الإنكارِ والإبادةِ المُطَبَّقةِ منذ 1925 على وجهِ التخصيص. ولدى سَبرِ أغوارِ مرحلةِ إنكارِ والقضاءِ على هذا العنصرِ الأصليِّ في الجمهورية، وتفسيرِه بواسطةِ فلسفةِ التاريخ؛ كان يتبدى للعَيانِ أنّ المُستَهدَفَ ضمنياً هنا، هو هذه الوحدةُ الإستراتيجية. من أهمِّ خطواتِ المؤامرة، كانت قيامَ الإنكليزِ وامتداداتِهم الداخليةِ باختلاقِ الضائقاتِ على دربِ مصطفى كمال. بينما لَم يَكُ ثمة محلٌّ لنزعةِ عداءِ الكردِ وصهرِهم ضمن ظاهرةِ الإدارةِ التركيةِ التقليديةِ وفلسفتِها. لكنّ بذورَ تلك العداوةِ كانت قد غُرِسَت لمآربَ خاصة. ومجرياتُ مراحلِ التمردِ وما بعدها، كانت تؤكدُ صحةَ هذه الحقيقة. هذا الوضعُ الذي لفتَ انتباهي بقوة، فضاعفتُ التركيزَ فيه في إمرالي، قد أفضى إلى تحولٍ جذريٍّ في فلسفتي السياسية. وبالمقدورِ استشفافُ تطورِ سياقِ هذا الفكرِ السياسيِّ في مرافعاتي التي دونتُها في هيئةِ ثلاثةِ نُسَخ.

وهكذا كانت النتائجُ التي توصلتُ إليها بخطوطِها العريضة:

أ- لَم تُنسَجْ خيوطُ المؤامرةِ ضد الكردِ فقط متمثلين في شخصي، بل وضد الأتراكِ أيضاً. فشكلُ تسليمي، ونيةُ الذين لهم دورُهم في ذلك لا يشيرُ إلى الحلِّ والحدِّ من الإرهاب؛ بل تجذيرُ وتعبيدُ أرضيةِ الخِلافِ والشِّقاقِ الذي سيَطُولُ قرناً آخر من الزمن. وإيقاعُهم إياي في فخِّ المؤامرة، كان قد قدَّمَ لهم فرصةً مثاليةً لتحقيقِ نواياهم المُغرضةِ تلك. وكانوا سيطمعون في انتهازِ هذه الفرصةِ حتى الأخير. إذ ما كان ممكناً التفكيرُ بالعكس. حيث لو أنهم شاءوا، لَكان بمقدورِهم المساهمةُ في إنجازِ مستجداتٍ إيجابيةٍ جداً في هذا الاتجاه. لكنهم كانوا يدفعون الأمورَ نحو الهاويةِ دوماً، ويُصَيِّرون المشكلةَ عقدةً كأداء بدلاً من حلِّها. كانت ثمة مساعٍ لخلقِ ثنائيةٍ نموذجيةٍ على غرارِ ثنائيةِ إسرائيل – فلسطين. فكيفما خدمَ الصراعُ الإسرائيليُّ – الفلسطينيُّ الهيمنةَ الغربيةَ في الشرقِ الأوسطِ قرناً كاملاً من الزمن، فكان بإمكانِ الصراعِ التركيِّ – الكرديِّ الأوسع آفاقاً بكثير، أنْ يخدمَ حساباتِ الهيمنةِ قرناً آخر من الزمن بأقلِّ تقدير. وقد رُعِيَ الهدفُ عينُه أساساً، أثناء تصعيدِ العديدِ من القضايا الأثنيةِ والمذهبية، وجعلِها تتخبطُ في اللاحلِّ ضمن المنطقةِ خلال القرنِ التاسع عشر. لقد أَنضجَت حقيقةُ إمرالي معلوماتي الخامةَ جيداً في هذا المضمار. إلا إنّ المعضلةَ الأهمَّ التي انتصبَت في وجهي، كانت إفهامَ ذلك إلى المسؤولين الأتراك.

ب – بالتالي، فالإقناعُ بأنّ المؤامرةَ مُحاكةٌ ضد الأتراكِ أكثر منه ضدي أو ضد الكرد، كان قد أمسى أهمّ إشكالٍ لديّ. وكنتُ أشدِّدُ على ذلك مراراً إزاء المُحَقِّقين معي. لكنّ هؤلاء كانوا مهووسين بنشوةِ النصر. وقد استمرَّ موقفُهم هذا إلى أنْ أدركوا عامَ 2005 أنّ حركةَ الهويةِ والحريةِ الكردية ازدادَت حيويةً وانتعاشاً عما كانت عليه في الماضي. ولدى تركيزي على الموضوعِ بإمعانٍ أكبر، رأيتُ عن كثب العناصرَ التآمريةَ الكائنةَ في سياقِ الحكمِ الدستوريِّ وعهدِ الجمهورية. وفَطِنتُ إلى أنّ الحدثَ المسمى بالاستقلالِ التركيّ، ما هو إلا أسوأُ أشكالِ التبعية. لقد كانت تبعيةُ الأتراكِ أيديولوجيةً وسياسية. ومع مُضِيِّ الوقت، استطعتُ الإدراكَ أكثر فأكثر بأنّ القومويةَ والوطنياتيةَ المُنشَأَتَين ذاتا منشأٍ غريب، وأنّ علاقتَها نادرةٌ جداً مع الظاهرةِ الاجتماعيةِ التركيةِ وتاريخِها. لقد كانت القوى المهيمنةُ عالِمةً بمدى ضعفِ النخبةِ الحاكمةِ التركيةِ بشأنِ السلطة، وتستفيدُ منه. كما إنّ السيطرةَ اللامحدودةَ التي بسطَتها هذه الأخيرةُ (أضفتُ هذه الجملة تلافياً لسوء الفهم ولاعتقادي بعودتها إلى النخبة الحاكمة التركية، وليس إلى القوى المهيمنة) على الكرد، كانت تتأتى من نقاطِ الضعفِ عينِها. لكنّ هذا التحكمَ كان يَأسِرها في نفسِ الوقت. فحاكميتُها كانت موَجَّهةً على الدوام، وكانت تفتقرُ إلى الأيديولوجيةِ الذاتية. أو بالأحرى، كانت تُفَعَّلُ ميدانياً قاعدةُ “الحاكميةُ كلُّ شيء، والأيديولوجيا لا شيء”.

ج- كان أسلوبُ “اهرب يا أرنب، امسِكْه يا كلبَ الصيد” هو الأسلوبَ الذي اتَّبَعَته قوى الهيمنةِ في تكريسِ الصراعِ التركيِّ – الكرديّ، بحيث كان الأرنبُ وكلبُ الصيدِ سيسقطان مُنهَكَين في هذه المطاردة، وسينهمكان في نهايةِ المطافِ بخدمةِ أربابِهما واستثمارِها إياهما كما تشاء. وما طُبِّقَ عليَّ شخصياً، إنما كان يؤكدُ إتباع هذا الأسلوب. فمواقفُ المفوضيةُ الأوروبيةُ من جهة، وقراراتُ محكمةِ حقوقِ الإنسانِ الأوروبية من الجهةِ الثانية؛ كانت تخدمُ مزاولةَ هذه السياسةِ بكلِّ ما للكلمةِ من معانٍ. ومنطقُ ربطِ الطرفَين بذاتِهم بلا حدود هو الذي كان سارياً. لَم يَكُ الهدفُ من ذلك إحلالَ العدالةِ واستتبابَ الحلّ. لذا، فقد بنيتُ مرافعاتي على فضحِ هذا المنطقِ بالأكثر. ذلك أنّ إجلاسَ شبكةِ الغلاديو على قمةِ جهازِ الدولةِ بشكلٍ لا نظير له في أيِّ بلدٍ من بلدانِ حلف الناتو، أمرٌ يستحيلُ إيضاحُه بالنوايا الطيبةِ ودواعي الأمن. بل كانوا قد تغاضَوا عن امتدادِ الغلاديو داخل تركيا، باعتبارِه يضعُ زِمامَ الأمورِ في حوزتِهم من جهة، ويقدمُ لهم فرصةً لا مثيل لها للتحكمِ بالبلدِ على مزاجِهم. ولدى التمحيصِ في شبكةِ الغلاديو ككلٍّ متكاملٍ عن كثب، وإماطةِ اللثامِ عن فلسفتِها؛ فسيُلاحَظُ أنّ الغايةَ تتجسدُ في احتلالِ البلدِ من أقصرِ الطرق، وتقسيمِ شعبِه إلى أجزاء مُؤَلَّبةٍ على بعضِها البعض. هذا ويكشفُ هذا الواقعُ عن نفسِه ضمن امتداداتِهم التي في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ على وجهِ الخصوص، من خلالِ الممارساتِ المُعاشةِ بكثافة. لقد كانت هذه الوسيلةَ الأكثرَ تأثيراً للتحكمِ بشعبٍ ما. حيث يستفزون الشعبَ ضد الدولةِ من جانب، ويحرضون كِلَيهما على سحقِ بعضَيهما بعضاً من جانبٍ ثان. كما كانوا يقضون على مَن يَرَونه خطيراً بإتباع الأسلوبِ عينِه. لقد كانت هذه الظاهرةَ لافتةً للأنباهِ بنحوٍ فاقعٍ في حقيقةِ الحُكمِ داخل تركيا خلال الأعوامِ الستين الأخيرة. إذ وكأنّ البلدَ قد صُيِّرَ مختبَراً لتسييرِ اشتباكاتِ ونزاعاتِ الغلاديو. فالصِّداماتُ التي تسبَّبَ بها الغلاديو في كافةِ مراحلِ PKK الهامةِ لوحدِها، كانت كافيةً وافية لوضعِ حدٍّ نهائيٍّ لعلاقاتِ الصداقةِ التقليديةِ المستمرةِ منذ قرونٍ مديدةٍ بين الدولةِ وشعوبِها.

د- قيَّمتُ مرحلةَ إمرالي كمِحفلٍ نموذجيٍّ لإفسادِ هذه اللعبة. فعززتُ أرضيتي النظريةَ اللازمةَ من أجلِ ذلك. وطوَّرتُ جميعَ المقوماتِ الفلسفيةِ والعمليةِ المطلوبةِ لاستتبابِ السلامِ وتوفيرِ شروطِ الحلِّ السياسيّ. وركزتُ على خصوصيةِ الحلِّ السياسيِّ الديمقراطيّ. لقد كان بمقدورِ هذه الأنشطةِ العصيبةِ المستلزِمةِ للصبرِ وسِعَةِ الصدر، أنْ تُحَطِّمَ جدرانَ الدواماتِ العقيمةِ للمؤامرة، وتخلقَ بدائلَ الحلِّ المُرتَقَب. لَم يَكُنْ أمامي في هذا المضمارِ سوى الثقةُ بالنفس. في الحقيقة، كانت نوايا القائمين على مهامِّهم في سياقِ المؤامرةِ مختلفة. إذ كانوا يتطلعون إلى إنهاءِ وجودِ PKK وحركةِ الحريةِ متجسداً في شخصي. هذا كانت ممارساتُ السجنِ وجميعُ مواقفِ محكمةِ حقوقِ الإنسانِ الأوروبيةِ والاتحادِ الأوروبيِّ مرتبطةً بهذه الغاية. كان يجري البحثُ عن حركةٍ كرديةٍ مصطفاةٍ ومُنَقّاةٍ مني. وكان يُرادُ خلقُ نسخةٍ حديثةٍ للتواطؤِ التقليديّ، بحيث تَكُونُ مخصيةً ومُسَخَّرةً لخدمةِ أسيادِها. وفعالياتُ أمريكا والاتحادِ الأوروبيِّ على المدى الطويلِ بشكلٍ خاصٍّ كانت تتمحورُ حول ذلك. وقد كانوا منفتحين على التحالفِ مع النخبةِ التركيةِ الحاكمةِ بناءً على هذه الأرضية. باختزال؛ فنموذجُ الخَصيِ هذا، الذي نجحَت الهيمنةُ الإنكليزيةُ بوجهٍ خاصٍّ في تطبيقِه على حركةِ الطبقةِ العاملةِ ثم على حركاتِ التحررِ الوطنيِّ والحركاتِ الثوريةِ والديمقراطية، قد أحرزَ النصرَ مع أسلوبِ حقوقِ الإنسانِ وحرياتِه الليبرالية. حيث قاموا بتصفيةِ القياداتِ والتنظيماتِ الثورية. وعلى غرارِ أساليبِ التصفيةِ التي مارسوها طيلةَ قرونٍ عديدة، كان يُطَبَّقُ أسلوبٌ مشابهٌ على PKK والحركةِ الثوريةِ وحركةِ المساواةِ والحرياتِ العامةِ أيضاً. كانت هذه هي النتيجةُ الأوليةُ المأمولةُ من سياقِ إمرالي، وهذا هو المخططُ المَعمولُ عليه بكثرة، والمُرادُ تطبيقُه بمهارة. وقد كانت الإستراتيجية والتكتيكاتُ تُصاغُ مُؤَطَّرةً بهذا المخطط. أما المرافعةُ التي طوَّرتُها مقابلَ ذلك، فلَم تَكُنْ تعتمدُ على الموقفِ الأرثوذكسيِّ الدوغمائيِّ التقليديّ،ولا على إنقاذِ نفسي وتحسينِ ظروفي. بل إنّ طريقَ الحلِّ السلميِّ والديمقراطيِّ المُشَرِّفِ والمبدئيِّ والمتماشي مع واقعِ الشعوبِ التاريخيِّ والاجتماعيّ، هو الذي رسمَ مسارَ مرافعتي.

زر الذهاب إلى الأعلى